كارل يونغ، زميل سيجموند فرويد وأحد أبرز الباحثين في علم النفس، كان له رأي فريد في الحضارة التي نعيشها، على المستوى الفردي والجماعي. فهو يقول إنها ليست حضارة، وإنما مجموعة خطيرة من الأمراض النفسية، ويضيف: «لو نظرنا إلى البشرية كلها كفرد واحد، ودرسنا تصرفات هذا الفرد لاكتشفنا أنه يتصرف بوحي من لا شعوره، لا بوعيه».
والإنسان الذي يتصرف بوحي من لا شعوره هو الإنسان العصابي المريض الذي فقد القدرة على التحكم بالفرامل التي وضعها على لا شعوره. ويضيف يونغ: «إننا كائنات تتصرف بدافع من اللا شعور، إننا مسكونون».
مسكونون؟ والشياطين هي التي تحكم هذا العالم؟
يلاحظ يونغ أن ما كنا نطلق عليه «الأرواح الشريرة» هو ذاته ما نطلق عليه «العصاب» و«العقد النفسية»، والادعاء أننا كائنات تتصرف بوعي ومنطق هو ادعاء فارغ من أي مضمون، فما كان الأقدمون يطلقون عليه «الأرواح الشريرة» ليس في واقعه سوى أمراض نفسية وعقد تدفع الإنسان إلى التصرف على غير ما يضمر. ويضيف: «لقد اتخذت الشياطين أشكالاً أخرى وتحولت إلى عقد نفسية».
والعقد النفسية التي تفسر التصرف وفق ما تقتضيه المصلحة هي التي تحكم تصرفات الدول كما تحكم تصرفات الأفراد، وكما يفعل المريض النفسي عندما يحاول أن يمنطق تصرفه، تفعل الدول، فالمقاومة التي شنها ديجول لطرد الاحتلال الألماني من بلاده هي في عرف الغربيين مقاومة مشروعة ضد الاحتلال، والمقاومة التي يشنها الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة لتحرير بلادهم من أشرس هجمة استيطانية في التاريخ هي عمل إرهابي ينبغي أن يدان ويقمع بالقوة، وديجول بطل قومي، والشيخ أحمد ياسين إرهابي ينبغي نسفه ونسف الكرسي المتحرك الذي كان يستعمله بصاروخ نووي.
ولا نظلم هذا العالم عندما نصفه نحن العقلاء الذين لم تصلنا لوثة الحضارة الغربية بالجنون، فعلماء النفس يفسرون الجنون بأنه «ظاهرة نفسية تتميز بسيطرة اللا شعور كلياً على الشخصية، بدلاً من الشعور الواعي، إلى درجة تتعطل معها الإرادة الواعية»، والطريف أن المجنون يتصور أن أعماله صادرة عن إرادته، ولكنه واهم في ذلك، فقد كان جورج بوش يتصور أنه ينفذ إرادة الله بغزوه العراق وأفغانستان، والذين أغرقوا العالم في أزمته المالية الحالية فعلوا ذلك وهم يتصورون أنهم يتصرفون بطريقة صحيحة، وكل مجنون في العالم يستطيع تبرير أفعاله، حتى ولو رفض العقلاء تبريراته، وأذكر أنني زرت مستشفى للمجانين في بداية عملي الصحافي لإجراء تحقيق، وأثناء حواري مع أحدهم مددت يدي إلى كوب للشرب، فطلب مني عدم استخدام ذلك الكوب، وعندما سألته عن السبب قال: «فيه ذبابة»، ونظرت إلى الكوب فلم أجد فيه شيئاً، وقلت له: «لا أرى أثراً لذبابة»، فقال لي: «لقد مرت الذبابة من فوقه».
ألا ترون أنه تبرير منطقي ومعقول بالنسبة له، رغم أنه غير منطقي لنا نحن العقلاء الذين يرون أن مرور الذبابة فوق الكوب لا يلوثه؟
Sent from my iPad 2 - Ť€©ћ№©¶@τ
No comments:
Post a Comment