نوادر الأدباء وحكاياتهم كثيرة، وأفرزت نوعاً طريفاً من الأدب له عشاقه وجمهوره، وقد أورد الأديب الكبير عباس محمود العقاد الكثير من هذا النوع في كتبه، رغم أنه في منتهى الجدية في كتاباته مبنى ومعنى، ومن ذلك أنه عندما كان مدرساً في إحدى المدارس الثانوية طلب من تلامذته كتابة موضوع إنشاء، ولاحظ أن أحد التلاميذ أورد في موضوعه بضعة أسطر نسبها للشاعر الإنجليزي ميلتون، وتشاء الصدف أن يكون هذا الشاعر موضوع بحث لدى العقاد الذي كان معنياً بالمقارنة بين قصيدتيه «الفردوس المفقود» و«الفردوس المستعاد» وبين «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، وفي هذه المقارنة كان العقاد يعيد النظر في كل ما كتب ميلتون من الشعر والنثر، ولاحظ أن الكلام الذي أورده التلميذ لا يوافق أقوال الشاعر وموضوعاته وفلسفته، ولم يرد في كل كتابات الذين كتبوا عنه، ولما حقق في الأمر اكتشف أن طلابه اعتادوا ممارسة لعبة التذاكي مع أساتذة اللغة العربية، فهم ينسبون أي كلام لأي شخصية غربية مشهورة على أمل التأثير في أساتذتهم، والحصول على درجات أعلى.
وسأل العقاد تلميذه بالإنجليزية: «أين وجدت هذه العبارة من كلام ميلتون؟» ودهش الطالب ولم يصدق أذنيه عندما سمع أستاذه يتحدث إليه بهذه اللغة، ثم تبين أن هذا الطالب من الجهل بميلتون وكلامه بحيث لا يعلم أنه صاحب مؤلفات خالدة، وكل ما يعرفه عنه أبيات من الشعر سمع شقيقه يستظهرها وسمع أن ميلتون هو كاتبها.
وكبار الكتاب والمفكرين يتعرضون للظلم مرتين: الأولى على يد النقاد الذين اعتادوا على النظر إلى كتاباتهم بعين السخط التي تبدي المساوئ، لا بعين الرضا التي هي كليلة عن كل عيب، والثانية على يد أشباه العامة الذين لا يعرفون عنهم شيئا غير أسمائهم، ومع ذلك فإنهم ينسبون إليهم أشياء لم يقولوها فيسيئون إليهم من حيث لا يقصدون، وكم هي الأقوال التي نسبت إلى كاتب كبير مثل جورج برنارد شو ولا تتناسب مع تفكير هذا الرجل.
وكان المتنبي يقول إنه ينام ملء جفونه عن شوارد أفكاره، «ويسهر الخلق جراها ويختصموا» ولكنهم لم يكونوا يختصمون كما يظن المتنبي، وإنما كانوا يكيدون له، ويبحثون في كلامه عما يعتقدونه «هفوات» يمسكونه بها من الرسغ الذي يؤلمه، ومن ذلك ما جرى عندما أنشد ميميته المشهورة أمام سيف الدولة الحمداني التي يقول فيها: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم» وإقدام سيف الدولة على ضربه بالدواة.
وأبو نواس الذي اشتهر في أذهان الناس بسرعة البديهة والقدرة على الرد المناسب وإفحام النظراء والتخلص من المواقف الحرجة كان في رأسه ذؤابة، وألثغ، ونحيل الصوت، ويعترف في إحدى قصائده بأنه كان يذهب إلى مجالس القيان متعمدا إحراجهن، فينقلب الأمر عليه ويخجلنه هن ويفحمنه فلا يحير جوابا، ويقول العقاد: «إن شخصية «لخمة» من هذا النوع يسهل إحراجها بمجرد محاكاة لثغتها ونحافة صوتها»، ومع ذلك فإن الحكايات التي أضيفت إلى تراث أبي نواس أعطته الصفات التي ذكرناها، وأظهرته في صورة الذكي المنادم للبلاط.
ولو قرأ أبو نواس، أو برنارد شو، أو غيرهما من المشاهير، ما يكتب عنهم حاليا لما عرفوا أنفسهم
Sent from my iPad 2 - Ť€©ћ№©¶@τ
No comments:
Post a Comment