Tuesday, November 15, 2011

نعمة النوم - صالح الخريبي


جوانب كثيرة من حياتنا نمارسها بشكل تلقائي من دون تفكير، ونعتبرها من باب تحصيل الحاصل، ومن ذلك التنفس والنوم. إذ لا أحد منا يتوقف ويسأل نفسه: لماذا أتنفس؟ وكيف؟ أو: لماذا أنام؟ والذين يقولون إن النوم ما أطال عمرا، ولا قصر في الأعمار طول السهر ربما يجهلون أن الهستيريا التي يعانون منها بسبب إدمان السهر وعدم الحصول على حاجتهم من النوم هي التي دفعتهم إلى إطلاق هذا الحكم الذي يفتقر إلى أبسط الأسس العلمية.

ونحن لا نفكر بالنوم إلا عندما نحرم منه، والنوم ليس للراحة فقط، وإنما ليؤدي الدماغ فيه مهمات لا يستطيع تأديتها في حالة اليقظة، فأثناء النوم يقوم الدماغ بعملية بالغة التعقيد هي: إجراء فحص كامل لكل خلية من خلايا الجسم، وأرشفة المعلومات التي نحصل عليها في اليوم السابق ووضعها في ملفات خاصة يسهل الرجوع إليها في المستقبل، والتفكير بالمشكلات التي نواجهها ومحاولة التوصل إلى حلول لها، ووضع الحلول في ملفات خاصة يفتحها الدماغ لنا عندما نفكر بهذه المشكلات بعد الاستيقاظ، لنقرأ ما فيها، وإذا حرمنا من النوم فإن كل المعلومات التي نحصل عليها والأفكار التي تخطر لنا، والوجوه التي نقابلها، والانطباعات التي تتكون لدينا تتراكم بشكل عشوائي في الدماغ، وتؤدي إلى حدوث بلبلة تعرقل عملية التفكير، تماما كالموظف الذي يترك الأوراق أمامه على طاولة المكتب ولا يضعها في ملفاتها، وتكون النتيجة أنه عندما يرغب في مراجعة ورقة معينة، فإنه يضيع بين أكوام الأوراق أمامه.

والطريف أن الدماغ، عندما يحفظ المعلومات التي يحصل عليها في ملفات، لا يحفظها بشكلها الخام وإنما يضع عليها ملاحظاته، ومثال على ذلك، فإن الوجه الذي تقابله يحفظ له الدماغ ما يزيد على 150 صورة بعضها كاريكاتيري بكل ما في الكلمة من معنى، فإذا كان صاحب الوجه كبير الأنف مثلا، فإن الدماغ يلتقط صورة للأنف، ويضخم الأنف في الصورة عدة مرات بحيث يجعله يستوعب معظم الوجه، وإذا كان الشخص يعاني من الرشح بشكل دائم فإن الدماغ يحتفظ بصورة أخرى تبدو فيها فتحتا الأنف وكأنهما نهران غزيران يتدفقان، وإذا كان الشخص عدوانيا، يكن لك مشاعر سلبية، فإن الدماغ يرسم عينيه على شكل فوهتي مسدس، أو يرسمه وهو يشتمك، إلى آخر ما هنالك من تفاصيل وانطباعات تجعل من السهل عليك التعرف على هذا الشخص واتخاذ موقف منه، عندما تقابله في المرة المقبلة.

وإذا حرمنا من النوم، فإن هذه الصور تظل في صورتها الخام مكومة على طاولة الدماغ، فتتداخل الصور في ذهننا ونتصور أشياء لا وجود لها، لأننا نتصورها بحالتها الخام كما رسمها الدماغ، وقد أجرى العالم هيرمان هوبر تجربة على مجموعة من الأشخاص فرض عليهم البقاء في حالة يقظة من دون نوم فترة من الوقت، وفي اليوم الأول لم يتأثر هؤلاء، وفي اليوم الثاني بدت حاجتهم إلى النوم غير قابلة للتجاوز، وفي اليوم الثالث أصبحوا ثائري الأعصاب، مشدودين، وفقدوا الإحساس بالمبادرة، وفي اليوم الرابع أصبحت حالتهم أكثر سوءاً، وباتوا يغطون في النوم من دون إرادتهم، وعندما يوقظهم الدكتور هيرمان كانوا يتوقفون عن أي نشاط ويحدقون في الفراغ، ويكشف المسح الكهربي لأدمغتهم أنهم يخضعون لحالة مماثلة للحالة التي يكونون عليها أثناء النوم. وبعد بضع ساعات أصبح هؤلاء يعانون من اضطراب في الرؤية، وخداع بصري، وهلوسة، ومن الأوهام السمعية، كأن يتحول خرير الماء المنبعث من حنفية للمياه إلى صوت يتوجه بالشتائم إليهم.

والنوم لا يطيل العمر، لأن الأعمار مقدرة، ولكنه يجعل الحياة أكثر جمالا، والسهر لا يقصر الأعمار ولكنه يحولها إلى حلقات متصلة من الهلوسات والتهيؤات، ولو استمرت تجربة هيرمان يوما واحدا لبدأ رجاله يعانون من هلوسات مرضية، كأن يتخيل أحدهم أن هنالك من يحاول دس مخدر له في فنجان للقهوة، أو أن هنالك من يريد القضاء عليه، وربما يتصل بالشرطة لكي يقدم بلاغا عن محاولة قتله.


Sent from my iPad 2 -  Ť€©ћ№©¶@τ

No comments:

Post a Comment